عائشة ماه ماه وكرموس أخنوش
من منا و منكم لا تهزه رعشة غضب، أمام هذه التراجيديا المهولة. إن كنا نمر أمام هذا الهول مر اللئام، فعلينا و على حضارتنا السلام. سؤال يحتم الإجابة : لماذا هذا الإهمال؟ أو ليس سكنا لائقا لهذه السيدة إلا نقطة من بحار الامتيازات والثروات برية وبحرية؟
أخاف أن أضع الأصبع على الجرح فأجيب : هذه المرأة فنانة، وهبت عمرها للفن و الإبداع. لكن ما يعنيه الفن، إن لم يكن هذه العاطفة الجياشة المُحـرِّرة و التي أدبا كانت أم رسما أم تمثيلا تجلت تَجاوُز أطر متكلسة و عواطف متحجرة أو ما لا أعرف. ماذا لو كانت هذه الفنانة تنتمي لهذا الفن العفيف و الدليل عكسا، أنها لو انتمت لهذا الفن المناقض. هذا الفن العـفـن، لكانت اليوم في نعـيم يسر الواهمين؟ أو ليس هنا يكمن سر الموقف الانتقامي لهياكل الرداءة، ضد إمرأة لم تلعب اللعبة المطلوبة؟ أو ليس من الواجب أن تكون عبرة لكل الذين يغريهم الضمير، للالتحاق بذلك الفن المحرم. الفن المحرر للعاطفة والمخيال والإرادة، أي كل تلك الإضاءات التي تـُـنير الكهوف المعـتمة ؟
كنت أنتظر من الجمعيات المدنية والحقوقية ومن الأحزاب السياسية والمؤسسات الرسمية والخيرية، كنت أنتظر من هؤلاء أن يهبوا، أن يقوموا قومة رجل واحد و إمرأة واحدة ليطلقوا صرخة واحدة بصوت يصم الآذان: « ما كُـنت عائشة ماه ماه، بل أنت عائشة أماه، عائشة أختاه« . أنت الأمانة في عنق الأمة، أنت و كل الأمهات الضائعات و كل الأخوات المداسات.
كنت أنتظر من كل هؤلاء أن ينتفضوا ليعلنوها حربا شعواء على هذا السرطان الخبيث، الذي ينخر مجتمعنا. سرطان الأنانية المقيتة، سرطان القلوب الغـُلف، سرطان الإثراء اللامشروع دوسا على أحلام الفقراء و براعم التطلعات الواعدة.
بنكيران بين الغـرغـرة والقهقهة
ذات يوم وقف الأستاذ عبد الإلاه بنكيران في البرلمان. رأيناه ينتشل المكروفون كفارس شهم، ينتشل رمحه مُسددا إياه لصدر الباطل. وبصوت مجلجل هـزنا، قال معلنا تضامنه مع المسحوقين : » سمع عمر بن الخطاب غـرغـرة في بطنه وقد نام جائعا، وهو أمير المومنين، فقال مخاطبا بطنه: غـرغـري ماشئت فوالله لن تشبعي إلا إذا شبع فقراء المسلمين !« . و كان لكلمته تلك وقعها، و هو نفسه الوقع الأشد و الأقسى في هذه اللحظة العصيبة، و صرخة هذه المرأة تـُدوي في أعصابنا ودمنا، حد أن صداها يتردد خلف الجبال و البحار. و الدليل ها أنا في جـنيـف، يـبلغـني الصدى و أخط هذه الكلمة المنتحبة .
و لكم بودنا أن نسأل حضرة الأستاذ بنكيران : يا حضرة هذا الرجل، كيف تنام هنيئا و تشرب مريئا و هذه المرأة لا تـُغـرغـر بطنها و كفى، و لكنها تـتـلوى بين الصراصير والفئران ؟ نعلم يقينا أنه ما كان و لن يكون بوسعك أن تطعم كل فقراء المسلمين. و لكن بوسعك، و أنت و ذويك في السلطة، أن تنتفض فتأخذ الكلمة من جديد و بنفس الصوت المجلجل. تصرخ مطالبا بحق هذه المرأة في سكن كريم يقيها ذل الهوان و ذل السؤال !
هل كنت تعلم أنك يوم استشهدت بعمر بن الخطاب كنت تسجل حضورك في ذاكرتنا، كرجل شهم و كريم. قلنا يومها ها هي الأخلاق الإسلامية تعـتلي المنصة. أخلاق التضامن، أخلاق الرحمة و المغفرة، أخلاق العزة الدينية و الروحية. يا الله أين كل هذا اليوم ؟ كل هذا لم » يكن إلا حلما أو خلسة المختلس ». كل هذا راح مع الرياح المصلحية، كل هذا جرفته الليالي الحبلى بحرباءات الرمالات المتحركات!
إني أسأل بحرقة في الفؤاد، أين المحسنين ؟ أين كبار الأغنياء الذين كدسوا من الذهب ما فاضت به خزائنهم؟ أين السيد عزيز أخنوش أو ليس أغنى أغنياء البلد. ومع هذا، وزير الفلاحة و الصيد البحري و التنمية القروية و المياه والغابات، و مع كل هذا ملكية الأراضي و السماوات ؟ آخر الأخبار تقول أن سيادته في طور تدشين مشروع زراعة نبات الصبار، المقاوم للحشرة القرموزية، بقلعة السراغنة.
جميل و جميل. أعرف أن نبات الصبار يعانى من آفة تهدد بانقراضه. و من منا لا يبارك هذه الخطوة المباركة . لكني أقول، كل صبار الدنيا لا يساوي صرخة إمرأة مسها هوان الضر. كل الثروات لا تساوي قيمة سهم واحد يُسدد لفأر حقير يهدد بقضم أصابع إمرأة طريحة الفراش و الخصاص.
أعرف أن الصبار يعطي فاكهة لذيذة، نسميها التين الشوكي. أنا شخصيا من عشاقها. لكن متى كانت هذه الفاكهة إلا أشواكا كرموسية في حلوقنا، متى ما علمنا أنها تجند اهتمامنا على حساب إمرأة لا تنام الليل مخافة الإبر قد تجهز على النور في أحداقها ! يالله هل نحن في حاضرة الإسلام أم نحن السكارى في حاضرة السم والمُدام ؟
الأستاذعزيز أخنوش يقلب الطاولة
للإجابة على هذا السؤال، تعالوا حضرات السيدات و السادة، تعالوا نحلم لحظة واحدة خارج هذه الرداءة. و إذا فلنقـفـل عيوننا و نفتح قلوبنا : « ها هو المليونير عزيز أخنوش في مكتبه الوزاري الضخم، وأمامه حزمة صحف وطنية وعرضا فياضا عن أهم ما جاء في المواقع الإلكترونية المغربية. ساعتها، و الرجل قد أنهى قراءة كل ذلك. بدا و كأنه يحرق الإرم غيضا. ساعتها، تقدمت مساعدته و معها مساعدوه الأقربون، ليذكروه ببرنامج نشاطه اليومي. إنه تدشين ضيعة لتربية الماعز هنا، و أخرى لتربية العتاريس هناك. لكن المشروع الأهم، لهو تدشين عشرات المئات من الهكتارات من نبات الصبار الكرموسي. يستهدف مقاومة الدودة القرموزية التي تكاد تهدد نبات الصبار بالإجتتات مع كل العواقب المترتبة …
كان سيادته يستمع بهدوء. و في لحظة، و أمام دهشة مساعديه، وبغضب هصور، كاد يقلب الطاولة صارخا: » لتذهبوا وكرموسكم للجحيم. هناك ما هو أهم و أخطر،هناك إمرأة لا بيت لها إلا سقفا مهترئا، يمطرها جُـرذانا تهدد بافـتراسها. و إذا فكل مشاريعنا التشييدية نتركها لغد ناظره قريب. أما هذا اليوم، فلنخصصه لزيارة هذه المرأة. فهي كما جاء فى كتاب الله دين في أعناقنا و أمانة بين أيادينا. »
و هكذا رأينا الأستاذ أخنوش في زيارة لهذه السيدة الفنانة. و بتواضع الرجال الأشراف، رأيناه يجلس بجانبها ، يأخذ بيديها، يعتذر لها عن كل هذا التقصير في حقها. ثم يسلمها مفاتيح شقة لها و مع هذا أمرا نبـيـلا بصرف مرتب تقاعـد كريم.
سيداتي، سادتي، إنه مجرد حلم. لكن، ماذا لو كان الأمر حقيقة. لو كان الأمر كذلك، لكان حضرة الوزير اندرج في مسلسل الكرم الخلاق، و لكان احتل مساحة شاسعة في قلوبنا. و لكنا نلتقيه فننحني احتراما أمام شخصه و قد أصبح مجللا بهيبة قرآنية، يحسدها عليه أغنياء الكون.
القايد الريسوني وقيمة الحرف القرآني
و الآن، لو تسمحون لي أن أروي لكم هذه الأقصوصة الطريفة : يقول المؤرخ، أن ذلك كان أيام زمان و بالظبط في مطلع القرن العشرين، و في شمال المغرب، الذي سقط لا أقول كله ولكن بعضه تحت سيطرة القايد الريسوني، وكان رجل بطش و شكيمة، ذاق معه المخزن الويل والحنضل. هذا الرجل نزل يوما ضيفا فى طنجة على الصحافى الإنجليزي الشهير والتر هاريس صاحب كتاب : « المغرب الذى كان« . ما أن استقرت بالرجل جلسته و تناول بضعة رشفات من شايه، حتى تـنـزه ببصره عبر أرجاء المكتبة الطافحة بما لذ وطاب من فنون المعرفة والحكمة. لكن الذي استرعى انتباهه لهو كتاب يبدو كما لو كان غريبا بين تلك الرفوف. قام الريسوني و راح يتصفح الكتاب المذكور، و لشد ما كانت دهشته عندما اكتشف أن الكتاب لهو المصحف القرآني الكريم، مكتوبا بخط كوفي و بأحرف مرسومة غاية في الإبداع. وتحت أنظار المضيف أخذ الريسوني الكتاب، ضمه إلى صدره. ثم قـبَّـله و وضعه في محفظته بلا إذن و لا أدنى إعتذار. و لم يعرف هاريس ما يقول، خصوصا و الكتاب تلقاه هدية ثمينة. و كان يريد إهداءه للمتحف الإنجليزي بلندن.
عاد الريسونى إلى قصره. و ظل هاريس يتساءل كيف يستعيد كتابه الثمين، إلى أن جاءته فكرة رائعة. و على التو، بعث أحد خدامه للقايد الريسونى، يقول له أنه سيستقبل أصدقاء له من إنجلترا وهو بحاجة لخمسة بغال للتنقل والنزهة خارج طنجة. لم يتردد القايد في أن يبعث البغال المطلوبة في اللحظة والتو. ما أن توصل هاريس بالبغال المذكورة حتى أدخلها إسطبله، و قال للخادم عد للقايد و قل له لن أعيد لك بغالك، إلا إذا أعدت لي مصحفي. ما أن سمع القايد هذا الطلب حتى انفجر ضاحكا صارخا : إذهب و قل لسيدك : « الريسوني يقول لك ياحضرة النصراني البليد. ليكن في علمك، أن كل بغال الدنيا و جيادها و أنعامها وطيورها لا تساوي حرفا واحدا من مصحفي الشريف هذا !. »
أو ليس هذا يعني العزة الإسلامية في أوج تألقها ؟ أو ليست نفس العزة القرآنية تقول منذرة : « ويحكم ، كل كرموس الدنيا وصبارها لا يساوي شوكة واحدة في حلق إمرأة بلا مأوى. كيف تنامون وبجواركم إمرأة لا تعرف أتستنجد أم تقاوم الفئران و قد أبرزت أنيابها لتغرسها في نهديها ؟ ! »