اسرائيل من عرش ملكوتها الى اوحال هوانها
يومها، كانت إسرائيل في عنفوان جـبروتها و كانت تنام نومها العـميق، مستسلمة لأحلامها الوردية. من ينسى تلك اللحظة المرة. نتنياهو مزهوا، و بخطى واثقة يتقدم نحو المنصة الأعلى في الأمم المتحدة لينشر أمام ذاك المجلس و أمام العالم، الخريطة الجديدة الإسرائيلية و قد طالت و استطالت و امتدت لتمضي نهرا و بـرا و بحرا. حقا، كانت اللحظة بالغة المرارة. و كان العديد من رفاق القضية الفلسطينية يقولون يائسين: » قضي الأمر و انتهت القضية و إكرام الميت دفـنه ». بـل قال بـعـضهم : صلاة الـجنازة و هـي لـشعـب يـرحـمـكم ويـرحـمـه الله
و كانت إسرائيل في عز استيهاماتها. كانت الأحلام الفاشية قيد الإنجاز. و كانت الدولة تلبس قـفـطـان الإمـبراطورية و تستعـد للإنـقـضاض عـلى مجمل الشرق الأوسط، أرضا و عرضا و جـواري و عـبـيـد. و كان العالم يصـفـق. الـغـرب المنافق لم يعد إلا الكلب الباسط ذراعيه بالوصيد، يكـفي إشارة ليملأ الدنيا نباحا و تـهديـدا و زعـيقـا
و كان التـطـبـيـع يـجـري عـلى قـدم و ساق. لم يكن إلا مسلسل الانغراس الإسرائيلي في النسيج الاقتصادي و السياسي للعالم العربي. اختراقا للمؤسسات و الجـمـعـيات المدنية و الأحزاب السياسية و هياكل الدولة. كل هذا بهدف الهيمنة على المقدرات و الطاقات و الأسواق العربية و رقابة التحولات الجارية و ظبطها و العمل جنبا لجنب مع الهياكل المحافظة التي لايهمها إلا مصالحها
كل هذا التقطه رجال المقاومة، الذين اكتشفناهم قارئون جيدون للجغرافية السياسية و منصتون مرهفوا السمع لشخير إسرائيل. فـقـد سجلوا بـعـمـق بـصر و حـس بصيرة حقيقة اللعـبة و خطورة الرهان. أدركـوا ساعـتها، أن الـوطـن و مـستقـبل الأجـيال و تضحيات الشهداء الأبرار، كل ذلك في كـف عـفـريت. و إذا فعليهم التحرك فقد » حُمت الحاجات و الليل مُـقـمر
و كان هجوم السابع من أكتوبر تعـبـيـرا عـن انهيار عالم و بزوغ عوالم. و كانت إسرائيل تـفـغـر فـمها من الدهشة. و كان العالم مشدوها. فالعملية كانت محملة بأكثر من درس و أكثر من عبرة. و لعل الدرس الأكبر، لهو الدقة في التخطيط و الدقة في التنفيذ، و مع هذا حزم و إقدام. مما يعـني أن المقاومة ارتـقـت لأعـلى المستويات تـقـنيـا و استخباراتيا و تدريبا و بطولة و هذا، في الوقت الذي كان فيه الجيش الذي لايقهر متهالكا، مُـضـعـضعـا متخبطا. و الأدهى أن ظباطه الكبار، كانوا يُـسحبون أسرى و كان كل هذا إيذانا بأن التـفـوق الإسرائيلي لم يـعـد إلا حـديـت خـُـرافـة مُـضحكة
و كان هذا الهجوم المجهر الذي جعل المأساة الفلسطينية توضع فوق مائدة التشريح. و كانت الكدمات و الجراح الغائرة و الطعنات القاتلة. كان كل ذلك على مرأى و مسمع من العالم. و كانت الدعاية الإسرائيلية تنهار. و كان التاريخ يستدعى. و يا لهول التاريخ. كان العالم يكتشف ويلات المحن التهجيرية التى انطلقت منذ العام 48. فعكس ما تروج له الدعاية الإسرائيلية، فإن هذا الهجوم لم يكن مجرد تعبير عن نزوة إرهابية تستهدف قتل اليهود. كلا، هذا الهجوم لم يكن إلا النقطة التي جعلت الكأس تفيض. كلا، إنه أوج المعاناة عـن أقـبـح تراجـيـديا عاشها شعب شُـرد من وطنه و اقـتـُـلع من تاريخه و حـُـكم عليه بالمنفى في المخيمات و الـشـتـات
نعـم، كانت الصدمة أعـنـف لإسرائيل و أصدقاء إسرائيل. و ما أن استعاد هؤلاء أنفاسهم حتى كانت إسرائيل تشن حربها الهوجاء. ساعتها، كانت الصدمة أكبر هولا. فالجيش الذي اكتشفناه خلال السابع من أكتوبر مهلهلا، كنا نكتشفه خلال الحرب يتخبط عجزا و بلبلة. فليس من أفق و لا من رؤية و لا من خطة. ليس هناك إلا الانتقام الأهوج. ماذا يتبقى إذا إلا التخريب و القتل الجماعي في غياب تحقيق أدنى إنجاز عسكري رغم التوفـر على دعم لا محدود تـقـنيا واستخباراتـيا وعـسكريا
ولم يتوقـف سيـل الانهـيارات هـنا. فـالجرائم الإسرائيلية في حق المدنيين لم تلبث أن فتحت أعين العالم. فإذا القضية الفلسطينية على كل شفة و لسان. بل وأقول لم تعد علكة دبلوماسية و لكنها الدولة الفلسطينية التي تعنى بالملموس إنهاء الاستيطان و تفكيف المستوطنات و ترسيم الحدود
و رأينا الرأي العام الدولي يتحول نحو التعاطف مع الشعب الفلسطيني و رأينا الشباب الأوروبي و الأمريكي يعبر بلا وجل عن هذا التعاطف. بل أن أمريكا معقل اللوبي الإسرائيلي تعرف مظاهرات صاخبة. فضلا عن هذا، فإن مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت تشتعل بأفلام و وثائق و فيديوهات و أغان، و كلها تنديدا بدولة الأبارتايد. من ينكر أن العواقب هائلة مع كل الانعكاسات السلبية على الكيان الصهيوني الذي خسر شرعـية وجـوده المشيد على أنقاض الحق المسلوب
الخسارات الإسرائيلية هائلة : إقتصادية و بشرية و جيو سياسية. لكن أهول الخسارات، لهي الخسارة الأخلاقية و الإعلامية. من يتعامل مع دولة تسحب كل هذا الضجيج، من كل هذه الطبول، مذابحا و نسفا و قصفا و تعذيبا وتـُهم تطهيـر عـرقـي و مع هـذا، تـهديـم المستـشـفـيات عـلى رؤوس المرضى. و تـهديـم المساجد و الكنائس على رؤوس المُـصلين و تطول اللائحة
صورة المقاومة الـفـلسطـينية عـكس كل هـذا. انها صورة فـخـر. انها و هي تحارب من أجل التحرير، تحارب في نفس الوقت من أجل القـيم. قـيم إنسانية الإنسان. أما إسرائيل، فإنها تحارب لـتـقـتـل الأطفال بسبق إصرار. وإذا، فإنها تحارب الحضارة الإنسانية. فلا غرو أن يتجند المجتمع الإنساني في وجه هذا المسخ الذي يمهد لسقوط العدالة و انهيار مـُـدو لمكارم الأخلاق