رعاة البقر يقتلون الحضارة

 المفاعل النووي الإيرانى الذي تم ضربه تبدى أنه لم يكن إلا جعـبة فارغة. فقد سبق نـقـل كل محتوياته لأماكن غاية في السرية. و رغم الضحكات التي أثارتها هذه النكتة فإن هذا لم يمنع نتنياهو أن يتقدم يدا في يد مع ترمب نافخين أوداجهما مزهوين ضاحكين. و كيف لا، و قد ضربا ضربتهما القاتلة محققين حلمهما الأكبر. حلم تغـيـير خارطة الشرق الأوسط حسب الوصية التوراتية الخالدة. ها هما إذا ركَّـعا العـدو الإيراني. و ها هو نتنياهو في الطريق لينصب سـريـر مملكته، مستويا على تخته ملك الملوك. الجن كما الإنس تحت صولته و بريق صولجانه

فكيف وصل لهذا الإنجاز الباهر؟ أية عصا سحرية جعلته  يغير الشرق الأوسط رأسا على عـقـب؟ كيف تـفـتـقـت عـبقـريته عـن هذه الفكرة التي ستقلب كل الحسابات و تجعله يدخل التاريخ ملك الملوك؟  يا للهمة القيادية

 بالله، في أي عهد من عهود التاريخ نعيش؟ غـزو الإمبراطورية الفارسية على غرار العهود الخوالي. سحق جيشها و مقدراتها حتى إذا انهار النظام، تم فرض عـقــد الـبيعة على الفقهاء و أعيان الأمة ولاء للأمير البهلوي الذي يرتـقـي العرش الشاهنشاهي إحياء للأمجاد الفارسية المجندة كنوزا وإرادات في خدمة الإمبراطور الإسرائيلي الأعـظم

و كان العالم يحبس أنفاسه بين نائح هنا و مطبل مزغرد نابح هناك!  و كانت المقاتلات الإسرائيلية تنطلق مُـعـمدة بالبركة التوراتية لتصلي إيران نارا حامية. عشرون جنرالا سقطوا في لحظة البرق و معهم تسعة علماء كبار و مع هذا قصف العديد من المواقع العسكرية و النووية. و كان نتنياهو في أوج رقصته، يقاسمه نشوته الرئيس الأمريكي. و كانت الطبقة السياسية الإسرائيلية في أوج أعراسها. أو ليست العناية الإلهية تضع يدها على كتفها شاقة طريقها نحو الملكوت الأعلى، ملكوت السيادة المطلـقة عـلى كل هذا الشرق. شرق العـُـربان النعاج الذين لم يُـخـلـقـوا إلا ليكونوا خـدما لـشعـب الله المختار

رعاة البقر يقتلون الحضارة

ماذا لو عدنا للواقع و نطرح السؤال : كيف لا تعلمون معشر الغـُـزاة أنكم لستم إلا عابـرين و أن هؤلاء العـربان المحتقرين كما هؤلاء الإيرانيين و الفلسطينيين هم حضارة  ضاربة في أعماق التاريخ و حضارة، هذا شأنها هي حضارة لا تستأصل لا تهزم و لا تموت

و إذا، ماذا لو لم يكن كل هذا إلا حلمكم أو خلسة مختلسكم؟ ها هي الطبقة السياسية الإيرانية تفرك أعينها من الدهشة. لا تكاد تصدق هذا المستوى من الخديعة و الغـدر. ألم تكن هناك مفاوضات سلام؟ فهل لم تكن إلا مسرحية يراد بها التضليل و تحضير الضربات المسمومة؟ كيف؟ أو ليس هناك ميثاق شرف لا تنقضه إلا النفوس الدنيىئة؟

نعم، كانت الضربات موجعة بحق. و كيف لا و قد أجهزت على أرقى الرجال المحاربين و أعلى العلماء شأنا؟  لكن، متى كان الرجال العظام يرحلون إلا و قد سلموا المشعل لمن يخلفهم؟ ماذا يتبقى ساعتها أمام فرسان الفـُـرس الأشاوس غير أن يعـدوا من قـوة و من رباط الخيل ما يرهبون به عدوهم؟ و هكذا، و قبل أن يستفيق العدو من ابتهاجه كان المجاهدون يستعيدون زمام المبادرة ليمطروا عدوهم لا غـيــثـا عميما و لكن خرابا و إبرا في الحلوق و العـُـيون

و كان نتنياهو يستيقظ من سكرته. و كان شعبه ينهض من سباته الوردي ليكتشف أنه ليس هناك من ملك و لا مملكة و لا من سليمان أو هدهد سليمان و لكنها فـقـط غـزة الدامية تنفض  فاجعـتها لـتـقـتـسمها مع المدن الإسرائيلية. و معها خرابها و دمارها و عـماراتها الـمـزلـزلة و ضحايها يـئـنون تـحـت الأنـقاض

وتحولت الكمنجة الصهيونية من سمفونية الفرح إلى موال حداد و تحول الرقص إلى مندبة تبكي أهوال المحرقة و جروح الذاكرة و خيانات الليالي التي ما كـنا لنعـلم ما تـلـد

 لكن بالله، متى كان غـزو إيران كما غـزو غـزة، إلا سطوا على العدالة و قتلا للقانون؟ ما أكثر ما تعـرض القانون للدوس بقوة النفوذ و الرأسمال. لكننا اليوم، أمام عملية اغتيال جبانة للقانون، لنتصور لحظة واحدة أن زعماء أوروبا يصرحون كالببغاوات « لإسرائيل الحق فى الدفاع عن نفسها ». فـي الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تخرق كل العهود و كل المواثيق قتلا و تشريدا و فسادا في الأرض! ألا يعـني كل هذا قـتـلا للـقـانـون مع سـبـق إصرار؟

هل نعيش كابوسا ما؟ أم هي عـودة للعهـود الـغـابـرة ؟ أي عـندما كانت الإمبراطوريات الاستعـمارية تـتـقـدم مـسلحة بـوسائل دمارها لـتـستـولي عـلى بلدان بأكملها و تحكم عـلى شـعـوبها بـالـعـبـوديـة و الـخـنـوع ؟  

إستخلاصا، نقول أن البُـعـبع الـخـُرافــي شرب عـصير الهوان في غـزة. و ها هو اليوم يغـوص حتى الأذنين في الـبـرْكة الإيرانية. و ها هو ليخفف من وطأة الورطة يحاول جر ترمب لنفس الوحل، مـُـراهـنا على تهوره و تـدهـور بصيرته. حتى لكأني به لم يتوجس خيفة من فـخ لا يعـد إلا بهـزيـمة تحكم عـليه بالإقــصاء سياسيا و تاريخيا،  كما ذاك البوش الذي أقصي مشيعا ببصاق الأمة الأمريكية. بل بصاق كل الإنسانية

 ماذا خلف الأكمة؟ إنه الرهان الأكبر. انتصار قاتلي القانون هو انتصار رعاة البقر. انتصار شـريعـة الـغـاب و سقوط الحضارة القانونية أمام الهمجية البدائية التي تحلم بإعادة الأمجاد الوهمية، كما صاغها أحبارهم و التي لن تتوقف إلا بوضع الجزمة القذرة على المآذن و المنابر في المساجد و الأجراس في الكنائس و تحقيق إسرائيل الكبرى، فرضا لإرادتها بالحديد و النار. ساعتها، يهرع العربان من كل فج عميق مهللين مكبرين حامدين شاكرين للسيد الأعظم صهيون الذي كرما منه تركهم في غيهم و جهلهم يعمهون، حتى يسلبهم ما يملكون و ما لا يملكون

 الخلاصة، تقول جازمة أن الشرق الأوسط يتـغـيـر. بل يـتـشكل لا كما يريده رعاة البقر، بل كما تريده الإرادة التاريخية و العدالة القانونية المُـتـفــقـتان من باطن الأرض و سواعد الرجال و أرحام النساء

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *