
هل هـي غـزة توقـظـنـا بـعــد طـول مـمـات؟
ما الحيلة؟ إسرائيل عملاق لا يشق له غـبار و عبقرية عسكرية لا تقهر. و إذا، لا طاقة لنا بهذا الجبروت، ما دمنا مجرد سقط متاع. و علينا أن نرضى بهواننا. فحكمة شـيوخـنـا تـقـول: الـيد الـتي لا تـسـتطـيع لها قـطعـا عـليك بـتـقـبـيـلها ظهـرا و بـطـنا؟
لكن ذلك الصباح لم يكن ككل الصباحات. كانت غــزة تـقـتحم بـيـوتنا، تأخذ بخناقنا. و تهزنا و ترينا ما لم نحلم برؤيته يوما. كنا نرى الجـيش الـذى لا يـقـهـر، كـمـشة قـصب فـي مـهـب عـاصفـة المقاومة. و كـنـا نـكـتـشف عـباقـرة الـسـياسة الإسرائـيـلية يـتخبطون في وحل الشغف الانتقامي البدائي. و كنا نـكـتـشـف ديـمـقـراطـيـتهـم، عـنصرية بـغــيضة. و كـنا نكـتـشـف عـدالـتـهـم جارية تـعـزف عـلى قــيـتـارة غــرائـزهـم
وهـب أشباه الفقهاء منا يصرخون: الويل لكم، أو لسنا كلنا إسرائـيـلـيـون؟ ما مـعـنى هـذه الادعـاءات؟ أو لـيـس جـيشهـم الـمنتصر في إيران؟ في لبنان؟ في سوريا؟ لكن غـزة كانت تزيل غشاوة عن أعيننا. كانت تقول لنا، ويحكم يا أهل الظلالة العمياء. الانتصار المذكور و المطبل له، ليس إلا قنابل تلقى من خلف غـيـوم، بطائرات من أمريكا و قطع غـيار من الغـرب المنافـق
نعم، إنه الجيش المنتصر لا بسالة و لا مبارزة و لا إقداما، لكن فقط بنفخ سموم من خلف سحاب. و دليلكم، ها هو في غـزة يـتـمرغ فـي قـيـئه. يولي الأدبار، لأنه يواجه مـقـاتـلـيـن أشاوس، يـجـندلونه. ثـم، يـجردونه من سلاحه أمام أنظار العالم
و انقلبت الصورة. فإذا الجيش الجبار، ليس إلا العاجز المتهالك أمام المقاومة. إنه القط يشبه انتفاخا صولة الأسد، لا يحسن إلا قتل النساء و الأطفال. يقتلهم بلا رحمة و قد وقفوا صفا، صفا، لعلهم يظفرون بلقمة خـبـز أو حـفـنة دقيق
و تغيرت الصورة رأسا على عقب. و توالت علينا الاكتشافات. ها هم و هم المُـقَـلدون أرقى الأوسمة العسكرية، كما السياسيون المحنكون لا يحسنون خوض حرب و لا توقيع سلم. ها هم الزعـماء المتمرسون، لا يملكون من الزعامة إلا ما يملكه العريان من بـقـايا خـرقـة بـالـكـاد يـستـر بها عـار عــورتـه
و خلاصة القول، كنا نكتشف العمالقة صُم بُـكم عُــمي. و إلا فأين الفصاحة التي ادعـوا لها مالكون؟ و أين نفاذ البصيرة التي بها يتدثرون؟ و أين إحتكار الابتكار الذي هم له أسياد مُـسـيـدون؟
و كنا نكتشف خطابهم مضمخا بأنفاس مـقـابـرهم. أولا يقولون: قانونكم الدولي لا نعـترف به. لأنه من صنع الأغـيار المغـضوب عليهم. فالقانون الركيزة هو القانون النابع من تعاليم تلمودنا الموسوم بالسمة الإلهية. و هو الذى يقول لنا: أنتم الشعب المختار. و عليكم بذبح عـدوكم نساء و رجالا و أطفالا و رضعا. بل، و نباتا في حقولها و بهائما في حظائرها. بل، و أكثر من هذا يقول لنا أنتم سادة العالمين، أية أرض وطـأتـهـا قـدمكـم، هـي مـتاع و مـلـكـيـة لـكـم إلــى يوم الدين؟؟
و كانت صحوة الضمير العالمي في وجه هذه الترهات، تجلى صرخة شقت الآفاق. و كوفية تطبق على الغاصب المحتل فتخـنق منه الأنفاس، مذكرة إياه بأن الهمجية البدائية ما كانت لتشيد دولة على جماجم الأطفال. بل، ما كانت لتبصق على العدالة البشرية و تضع مكانها قانون الـقـبـيـلة المنبـثـق من الـكـهـوف الـنـتـنـة
و كنا نتساءل، كيف لم نكتشف كل هذا قـبلا؟ هل كان مُـغـررا بنا إلى هـذا الحد؟ هل كنا محششين أم سُـكارى و ما نحـن بـسكارى؟
و إلا، فكيف لم نسبر أغـوار هذه الهمجية التي لا تعرف ما تعـنيه الشهامة و لا الـقـيم النبـيلة و لا الأخلاق الكريمة، كيف؟ أو ليست هذه القـيـم، قـيـمنا بامتياز؟ أو لسنا تاريخيا، نبل الموقـف و شرف المسؤولية و عـزة الروح؟ أو ليس هذا ما تـغـنى به علـى الدوام أدباؤنا و فـطاحلة شعـرائنا؟ فبالله، كيف نسينا كل هـذا؟ هل كان من الواجب أن تـُــذبح غـزة حتى نكتشف دمائها تلطخ وجوهنا؟
و كنا في يـقـظتـنا نتساءل و الدهشة تـطـبـق على حصافـتـنا: إذا كانت فـئة قـليلة منا قـلبت كـل الموازين و فرضت إيقاعا جديدا، فكيف لو تجندت الأمة بأكملها؟ أو ليس هذا إلا عـنوان التحرير احتلالا و استبدادا و ظلام أصولية متطرفة؟ بل تحريرا من قـيـود كل الأبالسة، تلك التي تـطـبق على معاصمنا و أقـدامنا، حـتى أضحـيـنـا لا نـسـدد لـكـمـة و لا نـتـقـدم خـطـوة
سيذكر التاريخ أن غـزة كما إسرائيل اقـتحمتا غـُـرف نومنا. غـزة تذكرنا برسوم عـزتـنا. إسرائيل تدس أشواك مجازرها ومجاعـتها في مآقي عيوننا، ودفء أسرتنا. هل كانت إسرائيل إلا الصفعة تهزنا من أسفل أسافـلنا إلـى أعـلى أعـالـيـنـا، فـنفـتح عـيوننا و عـقولنا و قـلوبنا؟
نعم، كانت ضربة الجلاد خرابا و قـتـلا و بـتـرا و دفـنا بين الأنقاض. كانت تصـيـبـنا في كـرامتنا، في أسس هـُويتنا. و كنا نذرف الدموع. فالـدموع لا تـغـسـل قـلوبنا إلا لتحرق أحشائنا في أفران غـيضنا. و كانت أحشاؤنا تستنطقـنا: كيف أسدلنا الستار عـلى كبريائنا الذى طبع تاريخنا لننغـمـس في هذا البـحـر خـدلانـا مـتـلاطـم الأمـواج؟
غـزة، جـعـلتـنا نتأمل وجوهنا في مرايانا، حتى نرى استسلامنا و مُـركبات النقص في شخصيـتـنا. فماذا لو أقسمنا مسلمين أشرافا و مسـيـحـيـيـن كراما و يـهـودا أحرارا أن نسلخ من الـقـذارات الصهـيونية فـجـرا و من هذه المذابح صبحا. بل، ماذا لو استدعـينا نشيد الثورة الجزائرية الخالدة: قسما بالنازلات الماحقات، قسما بالراسيات و الدماء الزاكيات الطاهرات. و الجبال الشاهقات. قسما لقد استيقظنا بعـد طول ممات. و إذا، فلنا الـحـاضـر و المسـتـقـبل. كـل الـمسـتـقـبـل والـحـياة كـل الـحـياة