الرقص الإسرائيلي في المستنقع

نعم، الاستراتجية العسكرية ما كانت اختصاصي. لكن، أو لم يقل الله جل جلاله : إسألوا أهل العلم إن كنتم لا تعلمون. و هؤلاء يؤكدون: الاستراتيجية العسكرية لا تُـشـيـد عـلى تصورات أو استيهامات، و لكنها معرفة تعـددت. المعرفة بميدان المعركة حُـفَـرا، شجرا، حجرا و مع هذا معرفة الخصم، مؤهلاته، سكلوجيته، سلاحه، بطـاقـاتـه الهجـومـية أو الدفاعية. و أخيرا الاستخلاص تخطيطا و سيناريوهات نجاحا و كـيـفـيـة اسـتـتـماره أو فـشلا و كـيـفـية الـحـد من تـداعـياته. كل هـذا يـُوسع هامش المناورة و يـحـد مـن هـول الـمـفاجـأة

هذا ما تـقـوله أغلب الـمـراجـع الـعـسكرية الموثوق بها. و إذا فـلـنتوقـف عـند الجـيـش الإسـرائـيـلي و الـمـقاومة الـفـلسطينية أيـهـما يـمـلـك هـذه الـمـواصـفـات ؟ أو لسنا نجد كل هذا عند المقاومة الفلسطينية، معرفة بميدان المعركة و بالخصم سكلوجيا و ثـقـافـيـا ؟ و بـسلاحه ذخـيـرة و عــدة و عـتادا ؟ أو لسنا نجد الحس الاستباقي المبني على المعـلومة الاستـخبـاراتـية ؟ أو لم يترجم كل هذا، هـامـش مـناورة أكـثـر اتـساعـا و هـامـش مبادرة أكـثـر جـرأة ؟

لكن، ماذا عن الجيش الإسرائيلي و هو الجيش الأسطورة، الذي قيل لا يقهر؟ بأطنان إمكانياته تقـنيا و عـسكريا و إمـدادا ؟ ها هـو غـُـبار المعركة ينجلي بعد تسعة أشهر. و ها نحن نكتشفه و قد انطلق بأوداج منتفخة، لينتهي مـهـلـهـل الإرادة، خائـر العزيمة ! فـكـيـف ؟ أيـن تـكـمـن الـقـشة الـتي قــصـمـت ظـهـر هـذا البعـير ؟

إنه الصَـرَّار زاحفا

لنتوقف عند عامل واحد، و هو معـرفة الـعـدو نفسانيا و ثـقافـيا. إسرائيل ترى أن العـدو لا يستحق أن تـتـعـرف عليه. إنه ليس إلا صَـرَّارا يزحف ! أو لم يقل وزير الدفاع غداة السابع من أكتوبر، أن الفلسطينيين حيوانات بشرية ؟ و إذا كانوا كذلك فما يُجدي التعرف عليهم ؟ إنهم و أطفالهم ليسوا إلا فئران تجارب ! و إذا فـحـري بهم أن يكونوا كومة لحوم لنار قنابلنا و مُـضغـة بـيـن أشـداق مـدافـعــنا  !  و كانت النتيجة مسلسلان: المسلسل الإسرائيلي الذي كلما انـتـفـخ احـتـقـارا للخصم، كلما تدحرج هـوانا عسكريا و ترديا أخلاقـيـا. و المسلسل الحماسي حيث المبادرة أكثر جرأة و الإبداع أكثر حضورا. مــما يُـترجم  بكمائن و تـفـخـيـخ و قـنص يـدل عـلى معـرفة مـكـتسبة بـفـنون الـقـتال، و مـعـرفة أكـثـر بتحركات العـدو، و تحكم في زمام المبادرة عملياتيا و ابــتــكــارا

أمام كل هذا، كان جنرالات إسرائيل يفركون أعينهم دهشة. أحدهم يصرخ بيأس : لا يمكن كسب هذه الحرب ! و آخر يقول يلزمنا سبع سنوات عجاف ! و آخر يكتشف مشدوها إنها حرب عصابات .. إلخ

أو ليس هذا تعـبـيـر عـن الجهـل المُـطـبـق بـقـواعـد الـفـنون الـعـسكـرية؟  هـل هـناك جـيـش حـديث لا يسـتـبـق الأيام و لا يـعـرف ما اللـيـالـي بـه حـبـلى ؟ أو لـيس الـتـنـبـؤ الـمـبـني عـلى الدراسة الدقـيـقة لـميـزان الـقـوى يـحـتـل حـصة الأسـد فـي الـتـفـكـيـر الإستراتيجي ؟ هذا الجيش المسكين لا يملك شيئا من هذا. حتى لكأني بجنيرالاته كانوا يغطون في نوم ثـقـيل، ثم استيقظوا فجأة غـداة السابع من أكتوبر. و بلا ذرة تفكير أطلقـوا العـنان لخـيولـهم و بـغـالهـم نـافـخـيـن فـي الصور: هذه فرصـتـنـا لـلاستيلاء عـلـى غــزة الـموعـودة و إبادة عُـربانها طـردا و قـتـلا و تـهـديـمـا

المعلومة قبل البندقية

الحماسيون عكس هذا، يعتبرون المعلومة قبل البندقية رأس الحربة. أي تجميع المعلومات مع غربلتها و تصفيتها و الخروج بخارطة طريق تـُخصَـب و تـُـكـيَّـف حسب المستجدات. و هذا يعنى استخلاص الدروس و استشراف الآفـاق. هذا هو الذي يُـفـسر أن المقاومة في بدايتها، ليست هي نفسها بـعـد ثلاثة أشهـر و لا هـي بعـد تسعة أشهر. و لن تكون قطعا هي ذاتها بعد عـام. لأن هناك عـلاقـة عـضوية و ديـنامـيكـية بـيـن العـمل العسكري و الاجتهاد الفكري الـعـقـلانـي بـحثا و تـنـقـيـبـا و سؤالا و مع هذا وضع موضع تساؤل المُسَلمات و الخُـطـاطـات الـجاهـزة

 و إذا، فالمقاومة تـُـراكم تجاربها، نجاحاتها، خـيـباتها. و هـذا الـتـراكـم ما كان كومة أحداث، و لكنه دروس و عـبـر بـالغـة الـخـصوبة. فـالخـطأ لا يـتجدد و الفشل لا يُـستأنف. إنها إستراتيجية لم تحضر في المكاتب المكيفة. كلا، إنها استراتيجية ميدانية نابعة من ضربة الجلاد، من أخلاق الفروسية و عزتها. و شتان بين هذه و إستراتيجية إنتقامية، توسعية تـتـغـدى من أوهام التاريخ المـفـبـرك، و أحلام الـعـظـمة و الـثـقـة الجـبانة فـي الـقـنـبـلة الأجــبـن تـلـك الـمـلـقـاة مـن خـلـف سـتـار

ماذا لو أضفنا لكل هذا، الجُـرح اللامـنـدمـل فـي الروح الفلسطينية. جرح الوطن المسلوب. جرح الآباء و الأمهات، مطرودين من ديارهم. فـمـقـتـولـين أو مرعـوبـيـن يَـجـُـرون أحزانهم نحو مخيمات البؤس و الاغـتـراب

وطن نموت حتى لا يموت

هـذا هـو الـذي يـنفـخ فـي الروح الفلسطينية شعلة الفداء و التضحية. فالـشـهـادة لـيـست جـوازا نحو الجـنـة، و لكـنها جواز عـناق أزلي مع وطن نموت حتى لا يموت

وشتان بـيـن مـقـاتـل لا يـتدثـر إلا بإيمانه بـقـضيـته، و جـيـش احـتلال يحارب من أجل و سام و مرتـب و أرض ليست له. من هـنا تـخبطـه و رقـصه الـمضـحـك الـمـبـكـي فـي وحله. من هـنا غــيـضـه الانـتــقـامـي. تـجـلـى حـمـم نـار فــي أعـيـن الـرضع و صـدور الـنساء و سـواعـد الـرجـال

أو ليست قـذارة الإنسان محكومة بالـقـذارة عـارا ؟ أو ليست عـزة الإنسان محكومة بالـكرامة مـقـاومة، فـكـيف لا تـتـحـدى صواعـق القنابل و زلازل الخراب و شـر العـواصف؟ بل، كيف لا تـُـروض الجاذبـيـة و تـُحـول قـعـقـعـة الـرعـود أنـاشـيـد فــخـر و تـحـرر

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *