من الحسين إلى حسن نصر الله
« يا موكب النور غاض الليل مـطـلعـنا و أتـلـعـت رأسها من قـبـرها الـرمـم ». هذا ما يقوله شاعـر ملهم منذ مائة عام، مختتما قصيدته تلك بهذه الصرخة التنبؤية : « حتى متى و أسرتي، أسرتي في جوفها ردم؟ ». و ها هو رُكام الأتربة في جوف الأمة. كم عائلة غزاوية أو لبنانية تـئـن تحت الأنقاض؟ كم رجل، كم إمرأة، كم طفل، كم شيخ لا يعرف أين أطرافه السفلى أو العليا ؟ فهي مدفونة تحت التراب و لا يعـرف كيف يحركها. بل، و لا يملك إلا الاحتضار و الموت بين الغـُـبار و الدم و أزيز الطائرات تمطر أفاعـي قـذاراتهـا و عـقـارب أحـقـادهـا
بيان الرئاسة الاسرائيلية
لكن، ماذا لو غادرنا وادي الدموع هذا، و توقفنا عـند هذا البيان لرئاسة الدولة الاسرائيلية. فلنقرأه معا. إنه يقول، بوضوح لا لبس فيه : » حضرات السادة الكرام و السيدات الكريمات، الحكومة الإسرائيلية تزف لكم و بكل فخر و اعـتزاز خبر توقـيع وثيقة السلام مع السيد حسن نصر الله، مباشرة بعد توقـيعـنا وثيقة نفس السلام مع السيد يحيى السنوار و ها نحن نستعد لتوقيع وثيقة السلام، اعترافا بالدولة الفلسطينية، التي نباركها و نشجعها و نعلن تعاوننا معها. و ها نحن نوقع لا وثيقة و لكن وثائق السلام و التطبيع مع البلدان العربية و إيران. و كل هذا، إيذانا بعهد جديد. عهد الأخوة المشتركة و الطموحات النبيلة. إنه عهد نشق فيه جميعا طريقا واحدا للإزدهار و التحرير والتنمية المنشودة. و إذا، ها نحن نحقق انتصارنا على الغرائز البدائية. غرائز الهيمنة و التسلط و الإعتداء على حق الغير. ها نحن اليوم أبناء إبراهيم يهودا و مسلمين و مسيحيين، أكثر عـزة و أروع هـيـبة. ها نحن نطرق جميعا أبواب المستقبل، لنفتحها على مصراعيها رغم أنفها. وسلام، سلام حتى مطلع الفجر. كما يقول القرآن الكريم و كما جاء في التوراة و كما بـشـر بـه الإنجيل. و السلام عليكم ورحمة الله
هذا ما جاء في بيان رئاسة الجمهورية الإسرائيلية. لكن رجاء لا تستغـربوا. لا تـنـدهـشـوا، أو ليس من حقنا أن نحلم ؟ نعم، سيداتي سادتي، هذا البيان ليس إلا إنشاءا حالما. ابتدعـته شـطحـات مـثـقـف مهـووس بحـب العـدالة و الحـنـيـن للـبراءة الإنسانية الأم. تلك التي لا تعـترف إلا بالأخوة بـيـن بـني الـبـشـر، كـيـف مـا كـانـت ألـوانهـم و أعـراقـهـم و مـــيـــولاتـهـم
نعم، إنها شطحات صوفية. لكن، رجاء دعوني استغل هذه الفرصة لأطرح هذا السؤال الغـُـصة على أهل إسرائيل: أما كان بإمكان هذا الحلم أن يكون حقيقة. لو جنحتم للسلم، كل السلم و احترمتم الحق، كل الحق! فهل هناك من عربي واحد، مسلما كان أم مسيحيا يرفض توقيع عـقـد سلام و محبة معـكـم ؟ هـل هـناك ساعـتها من يـرفـض أن يمد لكم يدا كريمة تطمح للبناء و تشييد صرح الأخوة معكم ؟
الانصات للمزامير التوراتية
لكن، يا للخراب العـظـيم! إسرائيل اختارت التأويل المغرض للمزامير الثوراتية. لكن، و لأن هذه واهية كما عـُـش العنكبوت. فإنها كانت تلجأ لحجج عنكبوتية أقبح و أرذل. و هي اللجوء لإحتقار الإنسان العـربي و الترويج لكل النمطيات التبخيسية في حقه، حتى تبرر استعـباده و قتله و احتلال أرضه. فهو الإرهابي. و هو المتخلف و المتوحش. و تاريخه صحراء التاريخ، بالظبط كما الأرض الفلسطينية. كانت صحاري قـفـراء حتى جاد عـليهـا الله بـعـودة شعـبه المختار، فأحـيا مـواتها و ألهمها تـقـواهـا
هذا هو الذي جعل إسرائيل تخطئ موعـدها التاريخي مع ذاتها. و هذا بالـظـبط ما ألهـم الـشـيخ حـسـن نـصر الله أن يـكون وفـيـا للـوعـد و العـهـد و الموعـد
وإن لا، فأجيبوني: كيف ذهب الشيخ لموعـده مع رفاقه و هو يـعـلم يـقينا أنه المكشوف و أن كاميرات خـصـمه و جـواسـيـسـهـم تـتـعــقـب آثاره خـطوة خـطـوة ؟
لإدراك هذه الإشكالية، علينا أولا أن نميز جيدا بين المنطق العسكري الذي يقوم على الهزيمة و الانتصار، و المنطق الروحاني النوراني الذي يقوم على الشهادة و التضحية و الإيثار؟ و إذا هل كان الشيخ يمضي لموعد، أم لشهادة لم تكن إلا كمينا لخصومه ؟ ألم يكن يحرر روحه حتى ترتقي سماواتها الربانية، تاركا لخصومه جثـمانـه الفاني هـديـة نـشـوة و انتصار
من الحسين الى حسن
و كل هذا ليستيقظوا من نشوة الانتصار و بهجة العرس، ليكتشفوا أن الهدية سما يسري في أوصالهم. و أن الرجل إيثارا و تضحية قدم نفسه لهم حتى يقتلوه تحريرا له و فرصة لإدخالهم المأزق التاريخي و مستنقع الهوان، اختـناقا حضاريا و انهيارا معنويا و أخلاقيا
ها هم، و قد سقطوا في الفخ، يكتشفون أن لا يدا نظيفة تصافحهم. و أن جريمتهم لم تكن إلا الستار يـُـزاح عن خـسة غــدرهم !ها هم يكتشفون أنهم ألحقوا الشيخ حسن بالشيخ الحسين، ليوقضوا كربلاء و هول الجرح الحسيني في الروح الشيعـية و الذاكرة الإسلامية. و ها هي الذاكرة الشيعية تعانق الذاكرة السنية في حداد أضحى توحدا
ألا يعلمون أن الضغط على أزرار الروح أشد زلزلة من الضغط على زر قنبلة بليدة؟ ألا يعلمون أن أزرار الروح تشيد ثـقـافـة و تلهم الإرادات، حتى تعـيد تشكيل الخرائط التاريخية و الجغرافية. أما أزرار القنبلة، فإنها قد تقتل طفولة و تخرب مدينة، لكن هذه و تلك و منذ الغد نشأة مـسـتأنـفـة
و بين أزرار الروح و أزرار القنبلة، تتشكل الحضارة الإنسانية بين صروح مجدها و أوحال قذاراتها