يحيى السنوار، حــي يحيا

 و جاءتني صور السنوار في لحظاته الأخيرة، سهام سُـم في الأعـصاب. أعترف، أصبت بالذهول. كانت السماء تمطر ساعتها. و لأني عصي الدمع، بل و لأن دمعي من خلائقه الكبر، فإني اخترت الخروج و السير تحت المطر، حتى لا يرى أحد دموعـي، و لا عـنفوان الـغـيـض و الـغـضـب يـهـزان جـوارحـي

و أعـترف. أخاف هذه الصور الفاجعة. صور القائد السنوار منهكا وحيدا، أفرغ كل ذخيرته في وجه العدو. حتى إذ لم يتبق له من دمائه التي تـنـزف إلا قطرة أو بعـض قـطـرة. لم يتردد جـودا بها، محدقا في وجه الموت، حتى لكأني بالموت يطأطئ رأسه مُـرتـعـشا. لا أسترسل، فهذه الصور تلفحني بـفـيض وخـزهـا و طـعـناتـها

إنها الصورالفاجعة، صور القائد مستشهدا. يا للمعجزة! كيف نسف هذا الرجل كل الحدود ليجعل من فاجعته الشخصية، فاجعتنا جميعا. و هنا المعجزة، فاجعة إسرائيل بامتياز! أو ليست و هي تـقـتل عدوها الأكبر تقتل مُفاوضها الأوحد. أو ليست تـقـفـل على نفسها في زنزانة أنانيتها؟ أو لم تخدم رسالته لتصنع منه أسطورة! و ها هي اليوم تواجه الأسطورة. و ليس هناك أخطر من أسطورة أخلاقية، تـُـشـتـت شـذر مـذر خـُـرافة الأرض الموعودة و أساطير الجبروت الأعـمى

الأسطورة السنوارية

الأسطورة السنوارية شيء آخر. إنها العـملاق يـجـنـد الإرادات و يـُلهم العـزائم، عابرا كل الآفـاق، معانقا كل الأرواح الظمأى لنسيم الحرية في وجه فلول الاستعـمار، تهاوى قصور رمال ونـقـيـق ضـفـاضـع

في اللحظات الآخيرة لهذا الراحل العظيم، كنا بلمح البصر نكتشف الانبعاث الكبير لكل القيم التي صنعت مجد أمتنا : الشهامة و الإيثار مكارم أخلاق والنبل سخاء و البذل تضحية. أو ليست هذه الشيم الحميدة هي التي صنعت مجد هويتنا؟ أو ليست نفسها مُـثـلـنا العليا مُـداسة دفـنا تحت حوافر البغال. بغال الأنانية و حمير الفساد؟

و إذا، كيف لا أتهيب خوفا من هذه الصور التي تلفحني بهوان أمتي و خـذلان أمـتـي؟ و إذا، فـمرحى بالسؤال الموجع: كيف لم نتبادل آخر قهوة و آخر شاي مع هذا المجاهد العـظيم؟ كيف تركناه يموت وحيدا، بلا يـد دافـئـة في اليد؟ هل فعلنا حتى نكون شهودا على التواطـؤ المقيت؟

                 كيف لم نصافح الشيخ حسن نصر الله، و لا المجاهد إسماعيل هنية ؟

ويحكم يا أهل هذا النظام العربي! كأنكم لا تعلمون أنكم و أنتم تخطـئون موعدكم مع هؤلاء الرجال، كنتم تخطئون موعدكم مع التاريخ و موعدكم مع الهوية العميقة لشعـوبكم؟هل هناك من شعب عربي لا يرى في هذه القمم تجسيدا لمطامحه في الارتقاء نخوة و تحررا

ألا ترى شعوبنا في اغتيال هؤلاء الرجال، المؤامرة الخسيسة بامتياز؟ ألا يرون في قتلهم انتصار الباطل و سحقا للحق؟ الحق في المسجد الأقصى، الحق في التألق تعليما و تنمية و ارتقاء حضاريا ؟

هذه النجوم في صحارينا

هؤلاء الرجال الجبال. ألا يجسدون امتدادا لهذه النجوم في مسيرتنا : عبد الكريم الخطابي، جمال عـبد الناصر، الأمير عـبد القادر الجزائري، عمر المختار و هذا المهدي بن بركة الذي يصادف هذا اليوم ذكرى اختطافه غيلة و غـدرا؟ هؤلاء الرجال، أليسوا هذه الشعلة في أرواحنا و التي بدونها لسنا إلا عظاما نخرة و أعجاز نخل خاوية؟

 نعم، و في الليلة الظـلماء يـفـتـقـد البدر! فكيف و كل البدور إنطفأت؟ فبالله، كيف نهتدي في هذا الـظلام الذي هو مُـدركنا أينما تولينا؟ ثم، ما يجدي الجري في الظلام هروبا من الظلام؟

  هل نسلم أقــدارنا لفقهاء الضلالة و ذئاب الظلام، نهشا لأكبادنا و أكباد أولادنا انتهوا عـبـيـدا، و أعـراض بناتنا انتهين مضغة في مواخير النخاسة و مجالس العار و الهوان ؟هل كنا نكون حتى لا نكون إلا حطبا يـجـرفـه السيل حيث شاء ؟ بل هل كنا نكون حتى لا نكون ؟

و أعود لنفسي متهما بصيرتي : لكن بالله، لماذا كل هذا اليأس؟ أو ليست صور القائد في لحظاته الأليمة تلك، حبلى بغـد آخر؟ أو ليست قـناة الجزيرة التي حـملتها إلينا إلا حمامة نوح تحمل لنا البشرى. بشرى التحرير الكبير. تأملوا هذه القناة التي لا تشبه القنوات. تأملوها بصحافياتها المشرقات و صحافييها اللامعــين و مثقـفـيها كما خبرائها العسكريين المُـتـقـديـن عـمـقا معـرفـيا و كـبرياء أنـفـة، أو ليس كل هـذا إلا جنينا متموجا في رحم هذه الأمة؟

الهيبة الاستشهادية

من ينكر إذا، أن الديمقراطية تطرق أبواب عالمنا بأياد مضرجة ؟ فكيف لا تـفـتـح مند الـغـد كـل الأبـواب و كـل الـنوافـذ احـتـفاء بكل التيارات المخلصة و كل الإرادات الـنـزيـهـة ؟

قـسـما، بـالـعـزة الجلالـية و بالأنبياء الأشراف عيسى و موسى و خاتمهم محمد عليه أزكى التحيات. قـسـما، نـحـن أمة الكرامة لا و لن نرضى بغير الكرامة و قد نشرت بهاء أنوارها في طول وعرض أوطاننا

قسما، أقول هذا وأنا المتهم بتشجيع الإرهاب. قسما، هذا السنوار الرائع المسيرة، شرفا و نبلا و تضحية. هذا الرجل النور لم يحفر هذا الجرح الجديد في ذاكرتنا إلا ليكون المشعل يلتحق بالمشاعل التي تضيء مسيرتنا. هذا الرجل، بهذه الهيبة الاستشهادية، سيكتب له الخلود في حاضرنا و مستقبلنا شعـبا وأمة و إنسانية كسيرة الجناح

 ويحكم! لا تبحثوا عنه مزارة و لا ضريحا. كلا، إنه الرمز البهـي مرسوما في كل القلوب، لكل الشعـوب و كل الضمائر المنتفضة ضد الذل و رموز الذل و كل ما يحط بإنسانية الإنسان

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *