
اشراقات عن محمد بنسعيد آيت يدر
هذه كلمتي، كنت حضرتها بمناسبه الحفل التأبيني للراحل الكبير محمد بن سعيد آيت يدر و كان من المفروض ان القيها يومها في هذا الحفل الكريم. لكن جرت السفن بما لا تشتهيه الرياح. واذا فاني القي هذه الكلمة هنا تعميما للفائدة
سيداتي، سادتي، سلام عليكم مع رحمة الله
الحديث عن محمد بن سعيد آيت يدر، حديث لا أقول متشعب. و لكن ذو شجون. و سأكتفي هنا بهذه اللقطات التي أتمنى أن تنير جانبا من حياة هذا الراحل الكبير
لقد حظيت بشرف التعرف عليه في نهاية السبعينات، بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الإنسانية بباريس. و بالظبط في الدرس الأسبوعي للأستاذ « روبير باريس« . و هو الدرس الذي و لأنه يعالج الحركات العمالية في أوروبا فقد كان يستقطب طلابا و مناضلين يهتمون بالظرف العمالي و المحن التي تعترض الفكر التحرري
و عندما علم أني أحضر بحثا عن محمد عبد الكريم الخطابي أبدى اهتماما كبيرا و راح يسألني كلما غادرنا قاعة الدرس عن المراجع و شح المعلومات المتوفرة. و أذكر أنه أول من نبهني لأرشيف « فانسان » العسكري. بل و أذكر أنه قال لي يومها: « إن قسطا كبيرا من الذاكرة الحربية المغربية يقبع هناك قيد الأسر
و قد زرت الأرشيف المذكور و اطلعت على ذخائره النفيسة. و لعله من المهم الإشارة إلى أني و أنا أدخل هذا الأرشيف، كنت أضع طلبي أمام أنظار المسؤول الذي علمت بعدئد أنه كولونيل سابق في الجيش الفرنسي. هذا الرجل ما أن اطلع على بطاقتي، حتى بادرني بالسؤال : « أنت من المغرب، و إذا فأنت من وطن الجنرال أوفقير. لقد كان رفيقي في الحروب التي خضناها سويا في الجزائر و في المغرب و في الهند الصينية. يا للجندي المقدام، يا للعسكري الشجاع
و عادت إلي ساعتها كلمة محمد بن سعيد عن ذاكرتنا المأسورة. و نقلت للأستاذ هذا الذي جرى فأجابني : » و إذا فإن ذاكرتنا ليست فقط قيد الأسر و لكنها قـيد الرقابة و التشويه و الدوس، ما دامت تحت مجهر الحجر و الوصاية الاستعمارية
و غادرت دروس الأستاذ روبير باريس و غاب عني الأستاذ محمد بن سعيد سنوات. لا أذكر أكانت طويلة أم قصيرة و لكنى أعلم يقينا أنها أشرقت بلقاءات متجددة مع الأستاذ بن سعيد بالمكتبة الوطنية بباريس. لكن و يا للأسى كنت دائما لا أعرف من يكون. كنت أعرف أنه السي محمد و كفى. و لا أعرف كيف وقر في ذهني أنه أستاذ مغربي زائر، عابر. لكني كنت أستشعر مكانة الرجل. فقد كان رقيقا، مهذبا، متواضعا، مجللا بذلك الحياء الذي يطبع النفوس الكبيرة و كل هذا كان يضفي عليه هيبة تعطي انطباعا أننا أمام شخصية استتنائية. و أن معرفته العميقة بالنضال الوطني تشي بأنه ليس باحثا و لا دارسا و كفى. و لكنه ضمن صناع التاريخ الوطني
مند ذلك العهد البعيد انقطعت كل صلة لقائية مع الأستاذ. و لكن الرجل كان قد حفر على جبيني إسمه بأحرف من نور، فلم أتوقف عن ملاحقة أخباره و فتوحاته. و أعترف أني كنت و معي أحرار هذا الوطن نشعر بالأسى و نحن نرى هذا الرجل المحمل برسالة لها صداها العميق، حقا في المجتمع المدني و لكنها المرفوضة جملة و تفصيلا من الهياكل السياسية، التي كانت تحكم عليه بالتهـمـيش. لأنه يـرفـض أعـراسها و طـبـولها
لا أقول كما قال عنه كاتب مغربي لامع أنه عانى « مائة عام من العزلة« . و لكني أقول « مائة عام من الغـربة« ! ما أعنيه بالغربة ؟ هنا الإشكالية التى أحب التوقف عندها في هذه العجالة. كيف لرجل تميز بكل صفات الزعامة، عاش في قلب التحولات السياسية و الاجتماعية و في قلب كل هذه العواصف، فكيف نقول أنه كان غريبا ؟ كيف أبى إلا أن يعود من منفى ليختار منفى آخر ؟ هل لأنه اكتشف أنه خارج الوطن المحلوم به الوطن المنبثق من إرادة الأمة ؟
ساعتها كانت المرحلة، مرحلة التأسيس لإمبراطورية الحكم الفردي، فكيف لا يجد هذا الزعيم نفسه غريبا و هو يريد التأسيس لدولة المؤسسات و سيادة القانون و العدالة. كيف ؟ أنـَّـى يكون له مكان هنا و هو الصارخ بكل ما أوتي من قوة : لا للعار المخجل تازمامرت، لا لأم الوزارات تفبرك الشخصيات و تفرخ الأحزاب و الجمعيات
أو لسنا أمام نزاهة لا تعرف المساومة ؟ و هذه النزاهة تجلت في هذا الطلاق بين السلطة و المجتمع المدني. ففي الوقت الذي كان مرفوضا، مجدفا عليه من السلطة، كان العريس المحتفى به في هذا المجتمع المدني. كانت الأيادي الكريمة تصافحه من كل صوب وحدب. أو لم نره يوما مرفوعا على الأكتاف في مظاهرة صاخبة، تطالب بإحقاق الحق و دحض الزيف؟
هنا بيت القصيد، إرادة الأمة كانت مرفوضة محكوم عليها بالاغتراب. أو ليس الغريب للغريب حبيب ؟ كيف نستغرب أن يعانق محمد بن سعيد إرادة الأمة في زواج لم يعرف طلاقا حتى الرحيل. و هو الزواج الذي أنجب هذه الإرادات التي تنصت إلي بكل هذا الاهتمام و التي أبادلها كل الود و التقدير
كلمة أخيرة تستحق أن أتوقف عندها، و هي إسم الراحل الكبير. إنه ما كان ليكون محمد و لا بن سعيد و لا آيت يدر و لكنه كل هذا توحد اختلافا. توحد تعددا، مما يعـني وحدة لا تنفصم عراها بين عروبة مجيدة و أمازيغية فخورة. أو لسنا هنا في عز الهوية الحضارية الوطنية، في خصوبتها، في خصوصيتها، في أنفتها، في صفعتها المدوية للمتنكرين لكل هذا الإرث الذي هو جوهر الشخصية المغربية و جوهر وصية هذا الراحل العظيم